السبت، 21 مارس 2020

الشعور و اللاشعور

هل الحياة النفسية شعورية فقط
هل الشعور هو المبدأ الوحيد للحياة النفسية
هل الحياة النفسية مساوية للحياة الشعورية

المقدمة
       يشرك الإنسان مع غيره من الكائنات الحية في مجمل الوظائف الحيوية كالتنفس و التكاثر و النمو إلا انه يزيد عنها و يتميز بوجود حياة نفسية داخلية حيث شكل أساس الحياة النفسية محور اختلاف الفلاسفة و السيكلوجيين أين اعتبر البعض أن الشعور هو الأساس الوحيد و أن الإنسان يعي كل أسباب سلوكه في حين دعى البعض الآخر إلى ضرورة الإقرار بوجود جانب خفي و هو اللاشعور و في ظل هذا التعارض نطرح الإشكال التالي:
هل الحياة النفسية حياة شعورية بالضرورة؟
هل يعي الإنسان دائما أسباب سلوكه؟
هل ما لا نفهمه من السلوك يمكن رده للاشعور؟
الموقف الأول:
      النظرية التقليدية-الكلاسيكية-:
يرى أنصار هذه النظرية أن الشعور هو المبدأ الوحيد المؤسس للحياة النفسية فنحن نكتفي لمعرفة جميع أحوالنا الداخلية بتأمل ذواتنا الأمر الذي دعى إليه زعيم النزعة العقلية روني ديكارت إذ يرى أن النفس لا تنقطع عن الشعور و عن التفكير إلا بإنقطاعها عن الحياة إذ يقول في الكوجيتو"أنا أفكر إذن أنا موجود" و لا تفكير إلا بوعي و شعور و قد تصور ديكارت الإنسان كثنائية مزدوجة بين المادة الجسم و الروح النفس إذ يرى أن كل ما هو نفسي شعوري بالضرورة أما الحوادث التي لا نشعر بها فمردها إلى الجسم و هي مجرد حوادث فزيلوجية آلية فنحن لا نشعر بالدورة الدموية أو عمل الرئتين أو انقسام الخلايا يقول ديكارت "إن الشعور و الحياة النفسية مترادفان" و يضيف " لا وجود لحياة نفسية خارج الجسم إلا الحياة الفزيلوجية إذ أن النفس لا تنقطع عن النفكير إلا إذا انقطع وجودها" و يضيف "لقد ثبت عندي هذه الأنا أعني نفسي التي بها أكون أنا، تتميز عن جسمي تميزا تاما فهي على أن تكون أو توجد بدونه" و قد عبر عن هذا الموقف الفيلسوف اليوناني سقراط حيث يعتبر أول مؤسس للحياة النفسية من خلال منهج التهكم و السخرية إذ يقول "اعرف نفسك بنفسك" بمعنى أن الذات هي الوحيدة التي تعي أسباب سلوكها و في الفكر الاسلامي نجد الطبيب ابن سينا الذي يرى أن الشعور صفة ملازمة للذات الإنسانية يقول "الشعور بالذات لا يتوقف أبدا"  أما الفيلسوف البراغماتي ويليام جيمس فقد اعتبر أن الشعور هو الموضوع الوحيد  في علم النفس يقول في هذا الصدد"إن علم النفس هو علم الوصف و تفسير الأحوال الشعورية فقط"  أما آلان فقط ربط بين التفكير و الوعي فمن غير الممكن أن نجد نفسا لا تشعر و منطقيا يستحيل الجمع بين متناقضين أي الشعور و اللاشعور يقول آلان "إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره" كما يعتبر برغسون من أهم الفلاسفة الذين أكدو أن الشعور ديمومة لا تعرف الانقطاع فهو كالنهر المتدفق أما المدرسة الظواهرية بزعامة هسرل فقد أكدت أن الشعور موضوع عام للنفس يقول "إن الشعور محيط بكل المواضيع فلا وجود للشعور بالفرح دون شيء مفرح لذا لا وجود لنفس لا تشعر" و يضيف "كل شعور هو شعور بشيء"  و نجد أيضا في الأخير هنري آي الذي ربط بين النفس و الشعور إذ يقول " لا يوجد ضمن تصرفاتنا إلا ما نعيه في أنفسنا و كل ما يصيبنا من تصرفات غريبة مرده وجود أرواح شريرة تسكن في الجسم"
النقد:
يعتبر الشعور في حقيقة الأمر جانبا مهما في الحياة النفسية لأن الإنسان كائن عاقل يميزه وعيه و شعوره الذي يتدخل في فهم   و تفسير سلوكاتنا  و تصرفاتنا إلا أنه في المقابل لا يمكن بناء نظرية على أساس متغير غير ثابت هذا من جهة و من جهة أخرى قد تصدر عنا سلوكات أفعل و أقوال لا قدرة لنا على تحديد أسبابها الأمر الذي مهد لاكتشاف مجال آخر قد يكون أوسع و هو اللاشعور.
الموقف الثاني:
   الطرح المعاصر و اكتشاف اللاشعور-نظرية التحليل النفسي-:
على خلاف الرأي الأول يرى بعض علماء النفس أن الحياة النفسية أوسع بكثير مما تصوره ديكارت خاصة مع اكتشاف اللاشعور
1.مفهوم اللاشعور:
هو مجموع الميول و الدوافع و الرغبات التي تصدر عن الإنسان و تؤثر في سلوكه و في تفكيره و مشاعره دون أن يعي أسبابها الحقيقية أو كيفية حدوثها.
1.       ظهور اللاشعور:
إن فكرة اللاشعور لم تكن مجهولة تماما على الأقل عند بعض الفلاسفة و العلماء حيث أشار ليبنتز إلى ما يسمى بالمدركات الصغيرة فنحن لا نشعر بصوت الأمواج في تتابعها و لكننا نشعر بالصوت الإجمالي لها، إلا أن فكرة اللاشعور قد برزت أكثر مع تطور علم النفس خاصة مع الطبيب النفساني النمساوي سيغموند فرويد حيث اكتشف اللاشعور و اعتبره أساسا مهما للحياة النفسية، و كانت أولى أبحاثه رفقة أطباء أمثال شاركو، بيرنهايم، بيار جانيه ، بروير فقد قام في البداية بمعالجة مرض الهيستيريا و هي كلمة يونانية مشتقة من لفظ هوسترا و تعني الرحم أما في علم النفس فهي مرض عصابي يظهر في اضطرابات فزيلوجية عضوية كالارتجاف، الصراخ، البكاء، الضحك، ارتفاع ضغط الدم ، الشلل و أخرى نفسية كالقلق، الاكتئاب، فقدان الذاكرة، و قد عولج هذا المرض بالأعشاب و العقاقير على أساس عدم وجود حالة نفسية، الأمر الذي دفع بفرويد إلى البحث في حقيقة هذا المرض فتابع العلاج مع زميله بروير الذي عالج فتاة عمرها 21 سنة أصيبت بمرض الهيستيريا أصيبت بمرض الهيستيريا بعد وفاة والدها أين اضطربت حركة العينين و توقفت الرؤية و لم تكن المشكلة عضوية بقدر ما كانت نفسية و قد تم تطبيق العلاج بثلاث مراحل و هي :
-التنويم المغناطيسي: حيث يتم تركيز أعصاب المريض على حركة أو صوت معين إلا أن هذه الطريقة لم تأت بل أثرت على أعصاب المريضة فتم اتباع
- طريقة التذكر الواعي: حيث يسأل الطبيب و يجيب المريض لكن كثيرا ما ظلل المريض طبيبه بإجابات وهمية أو أراد المريض الإجابة عن أسئلة لم يسألها المريض و لذا تم اتباع طريقة اخرى و هي
-طريقة التداعي الحر: حيث يطيق المريض العنان لأفكاره و ميوله و رغباته فتنتقل من ساحة اللاشعور إلى ساحة الشعور و لكن بوجود شروط كالجلوس المريح، الإضاءة الجيدة و الهادئة و تجنب الضوضاء، و هكذا تم الكشف عن ما كانت تكبته الفتاة من حزن على والدها و امتناعها عن البكاء فشفيت من مرضها و استعادت بصرها لذا يعود الفضل إلى فرويد في تأسيس مدرسة التحليل النفسي إذ يقول"إن فرضية اللاشعور فرضية لازمة و ضرورية" و يضيف " إن معطيات الشعور ناقصة جدا فكثيرا ما تصدر عن الإنسان السليم أو المريض على حد سواء أفعال و سلوكات نفسية يفرض تفسيرها وجود أفعال أخرى لا تتمتع بشهادة الشعور"

2.       حلالات اللاشعور:
الزلات –الهفوات-: و تتمثل في مجموع الأقوال و الأفعال التي تصدر عنا فتخالف مقاصدنا و تظهر في حالتين زلات اللسان و هي كلمات تخرج دون قصد كالقول مثلا اختتمت الجلسة بدلا من القول افتتحت الجلسة دلالة على عدم الرغبة في حضورها. زلات القلم: و هي أخطاء نكتبها دون وعي ككتابة ألم بدل أمل.أو نخطئ في كتابة الأيام و الأسابيع هذه الأخطاء ليست ناتجة عن السهو كما نظن و إنما تحمل دلالات لاشعورية.
الأحلام: و هي تعبير رمزي عن ميولنا و رغباتنا التي نعجز عن تحقيقها في الواقع فالحلم ليس مجرد تركيب عشوائي للصور بل هو نشاط نفسي له دلالات و هي نوعان: أحلام النوم: مما يرويه فرويد  قصة الفتاة التي كان يتكرر حلمها و هو ارتداؤها لفستان أبيض ففسر فرويد حلمها برغبتها في الزواج. أحلام اليقضة: و هي السهو و الابتعاد عن الواقع الشاب الذي يحلم بإمتلاك سيارة.
النسيان:و هو آلية يرجع إلها الإنسان على حسب فرويد للتخلص من المواقف المؤلمة يذكر فرويد أن عاملان في نفس الشركة أحبا نفس الفتاة فكانت في النهاية لأحدهما و كان الثاني دائما ينسى لقب الأول نظرا لكبته كرها له.
-النكت و السخرية: و تتعلق بنوع من التعبير المضحك عن رغبة مكبوتة فقط يصدر الأفراد نكتا سياسية اقتصادية أو رياضية.
-التجوال بالليل: يعتبر حالة لا شعورية و هو الاستياظ من النوم دون وعي     و الاتجاه إلى مكان ما مع تكرار كلمات تعبر عن رغبات مكبوتة.
-الحيل اللاشعورية:
و تتمثل في تزييف الواقع الذي يعيشه الفرد و تظهر في عدة حالات منها
* الاسقاط: كأن يتهم السارق كل الناس بالسرقة.
*التبرير: هو ارجاع التصرفات إلى أسباب غير حقيقية كإرجاع الفشل إلى عدم توفر الوسائل.
 *التعويض: هو اكمال مركب نقص كإرتداء قصير القامة لكعب عالي *التقمص: هو الرغبة في التشبه بشخصية نعتبرها المثل الأعلى قد تكون سنمائية أو رياضية في لباسها أو طريقة كلامها.
*التحويل: هو نقل عاطفة من موضوع إلى موضوع مثال: كره التلميذ للأستاذ يتحول إلى كره للمادة و العكس صحيح.
*النكوص: هو عودة الإنسان في تصرفاته من مرحلة إلى مرحلة كعودة الإنسان في سلوكاته من مرحلة الكهولة إلى المراهقة.
ملاحظة: يمكن إيجاد حالات أخرى من اللاشعور كالكتابة على الطاولة و الجدران أسماء أو حروف معينة.
3.       مستويات الجهاز النفسي عند فرويد:
-الهو النفس الأمارة بالسوء: و هو منبع الغرائز و الميول و ألأهواء و الرغبات و مكنم الغريزة الجنسية –الليبيدو- كحب الذات و حب الحياة و حب الآخر، و الغريزة العدوانية كتهديم الذات أو الآخر فالهو حسب فرويد لا يتبع المنطق و لا الأخلاق و لا المجتمع بل يتبع مبدأ واحد و هو الإشباع.
-الأنا الأعلى النفس اللوامة: هو مجموع الموانع و المحضورات الخلقية و القوانين الردعية و العقابية مثل يجب و لا يجب و يعتبر الأنا الأعلى العدو اللدود للهو.
- الأنا النفس المطمئنة: وظيفته تحقيق التوازن بين الأنا و الهو.
يمكن تشبيه الصراع بين الهو و الأنا الأعلى بفريقين متنافسين أمام الحكم و هو الأنا فإذا كانت النتيجة لصالح الهو عانى الأنا بتأنيب الضمير و إذا كانت النتيجة لصالح الأنا الأعلى فإن مطالب الهو ستتحول إلى حالات لاشعورية مثال:
الهو: الرغبة في الزواج
الانا الأعلى: لا زواج دون قواعد ما عدى ذلك فمرفوض
الأنا: ينهي الصراع بالحلم
النقد:
لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من قيمة العمل الذي قام به فرويد فلقد مكن اللاشعور العلماء و الأطباء من معالجة عقد نفسية طالما شكلت عائقا إلا أن ما يؤخذ على هذا الطرح هو أن الإنسان ليس مجرد ميول و رغبات و غرائز بل كائن تميزه إرادته و عقله الذي ينظم به سلوكه و يهذبه.
التركيب:
ما يلاحظ على كلا الموقفين هو المبالغة في  التأكيد على دور الشعور من جهة و و اللاشعور من جهة أخرى لذا فالإنسان ازدواجية نفسية بين الشعور كوعي و إدراك و اللاشعور كميول و رغبات.
خاتمة:
      نستنتج من خلال التحليل أن سلوك الفرد يحدده جانبان فمنها ما يفسر على أساس الشعور و منها ما يتم تفسيره باللاشعور و عليه فإن الإنسان لا يستطيع دائما أن يعي كل ما يجري بداخله يقول فرويد "إن الشعور هو الظل الذي لا يزول حتى لو غربت الشمس بل يزداد نشاطه بعد غروبها" كما أن السؤال الذي يطرح نفسه في النهاية هو هل يمكن اعتبار للاشعور و نظرية الكبت أثر في عملية الإدراك؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق